الخطبة الأولى :
إن
الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا . من
يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) . " سورة آل عمران ، الآية : 102 "
(
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث
منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله
كان عليكم رقيباً ) " سورة النساء ، الآية : 1 "
(
يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً (70) يصلح لكم
أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً (71) )
" سورة الأحزاب ، الآيتان : 70،71 "
أما بعد :
فإن
الناس مازالوا منذ أذن فيهم إبراهيم عليه السلام بالحج ، يفدون إلى بيت
الله الحرام في كل عام ، من أصقاع الأرض كلها ، وأرجاء المعمورة جميعها ،
مختلفة ألسنتهم ، متباينة بلدانهم ، متمايزة ألوانهم ، يفدون إليه وأفئدتهم
ترف إلى رؤيته والطواف به ، الغني القادر والفقير المعدم ، ومئات الألوف
من هؤلاء ، يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة ، تلبيةً لدعوة الله ، التي أذن
بها إبراهيم عليه السلام ، منذ سنين عديدة .
أيها
المسلمون : إنه ليس من المستغرب أن يذكر المسلم شيئاً من قصة إبراهيم خليل
الرحمن وشيخ الأنبياء ، مع قومه المجرمين الظالمين ، فعن عائشة رضي الله
عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اقتلوا الوزغ ، فإنه كان
ينفخ النار على إبراهيم ) وفي رواية لأحمد : ( إن إبراهيم لما ألقي في
النار جعلت الدواب كلها تطفئ عنه إلا الوزغ ، فإنه جعل ينفخها عليه ) .
سبحانك
يارب ، أي دين هذا الذي هديتنا إليه ، ورزقتنا اتباعه أية مشاركة تلك
المشاركة ، التي أوجدها الإسلام بين أفراده !!
منذ
مئات السنين ، وكلما رأى المسلمون وزغاً سارعوا إلى قتله . لماذا ؟ أمن
أجل أنه دويبة صغيرة فإن الدواب الصغار كثير ، ولم نؤمر بقتلها جميعاً ، أم
من أجل أنه يلحق بالحشرات الضارة ، فإن الحشرات الضارة لا تحصى ، إذاً
من أجل ماذا ؟ من أجل أنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم عليه السلام ،
ولأجل أن عدو إبراهيم إنما هو عدو لكل مسلم ، وسيبقى المسلمون على ذلك حتى
يبعث الله الأرض ومن عليها ، فلا ود ولا محبة لأعداء الدين ، ولو كانوا
حشرات صغيرةً كالأوزاغ .
إذاً
، فالمسلمون كالجسد الواحد ؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد
بالحمى والسهر ، وبذلك يصير الدين الخالص أساس أخوة وثيقة العرى ، تؤلف بين
أتباعه ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وتجعل منهم على اختلاف الأمكنة
والأزمنة ، وحدة راسخة الدعامة ، شامخة البناء ، وهذه الوحدة هي روح
الإيمان الحي ، ولباب المشاعر الرقيقة ، التي يكنها المسلم لإخوانه ، حتى
إنه ليحيا بهم ويحيا معهم وكأنهم أغصان انبثقت من دوحة واحدة . إن الأثرة
الغالبة آفة الإنسان ، وخدش فضائله ، إذا سيطرت نزعتها على امريء محقت خيره
، وأحيت شره ، وحصرته في نطاق ضيق خسيس ، لا يعرف إلا نفسه ، ولا يهتاج
بالفرح أو الحزن إلا لما يمسه من خير أو شر ، أما الدنيا العريضة ، والألوف
المؤلفة من البشر المسلمين ، فهو لا يعرفهم إلا في حدود ما يصل إليه عن
طريقهم ، ليحقق آماله أو يثير مخاوفه .
وقد
حارب الإسلام هذه الأثرة الظالمة بالأخوة العادلة ، فمن حق أخيك عليك أن
تكره مضرته ، وأن تبادر إلى دفعها أما أن تكون ميت العاطفة ، قليل الاكتراث
– لأن المصيبة وقعت بعيداً عنك ، فالأمر لا يعنيك – فهذا تصرف لئيم ، وهو
مبتوت الصلة بمشاعر الأخوة العامرة ، التي تمزج بين نفوس المسلمين فتجعل
الرجل يتأوه للألم ينزل بأخيه .
أيها
المسلمون : إن الحجاج إذ يستبدلون بزيهم الوطني زي الحج الموحد ، ويصبحون
جميعاً بمظهر واحد ، لا يتميز شرقيهم عن غربيهم ، ولا عربيهم عن عجميهم ،
كلهم لبسوا لباساً واحداً وتوجهوا إلى رب واحد ، بذكر واحد : لبيك اللهم
لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ،
وتراهم وقد نسو كل الهتافات الوطنية وخلفوا وراءهم كل الشعارات القومية ،
ونكسوا كل الرايات العصبية ، ورفعوا راية واحدة هي راية لا إله إلا الله ،
محمد رسول الله ، يطوفون حول بيت واحد ، مختلطةً أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ،
يؤدون نسكاً واحداً إن الإسلام يوم شرع الحج للناس ، أراد فيما أراد من
الحكم ، أن يكونوا أمةً واحدة ، متعاونةً متناصرة ، متآلفة متكاتفة ، كمثل
الجسد الواحد .
وبهذه
الصفة وتلك الجموع يقرر الإسلام أنه ليست هناك دواع معقولة ، تحمل الناس
على أن يعيشوا أشتاتاً متناحرين ، بل إن الدواعي القائمة على الطريق الحق ،
تمهد للمسلمين مجتمعاً متكافلاً تسوده المحبة ، ويمتد به الأمان على ظهر
الأرض ، والله عز وجل رد أنساب الناس وأجناسهم إلى أبوين اثنين ، ليجعل من
هذه الرحم ، ملتقى تشابك عنده الصلات ، وتستوثق العرى . ( يا أيها الناس
إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) " سورة الحجرات ،
الآية : 13 " . إنه التعارف لا التفاخر ، والتعاون لا التخاذل ، فأما
اختلاف الألسنة والألوان . واختلاف الطباع والبلدان ، فتنوع لا يقتضي
النزاع والشقاق ، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف ، والوفاء بجميع
الحاجات .
وليس
للون والجنس واللغة والوطن ، وسائر المعاني من حساب في ميزان الله ، إنما
هنالك ميزان واحد ، تتحدد به القيم ، ويعرف به فضل الناس ( إن أكرمكم عند
الله أتقاكم ) " سورة الحجرات ، الآية : 13 " والكريم حقاً هو الكريم عند
الله ، فهو يزنكم عن علم وخبرة (إن الله عليم خبير ) " سورة الحجرات ،
الآية : 13 " .
وأخوة
الدين تفرض التناصر بين المسلمين ، لا تناصر العصبيات العمياء ن بل تناصر
المؤمنين المصلحين لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، وردع المعتدي وإجازة
المهضوم ، فلا يجوز ترك مسلم يكافح وحده في معترك ، بل لا بد من الوقوف
بجانبه على أي حال لإرشادة إن ضل وحجزة إن تطاول ، والدفاع عنه إن هوجم ،
والقتال معه إذا استبيح ، وذلك ، معنى التناصر الذي قرره الإسلام ، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) " رواه
البخاري وغيره " .
ومما
اتخذه الإسلام لصيانة الأخوة العامة ، ومحو الفروق المصطنعة ، توكيد
التكافؤ في الدم والتساوي في الحق ، وإشعار العامة والخاصة بأن التفاخر
بالأنساب والألوان والأجناس أمر باطل " لأن الكل من أدم وأدم من تراب " فما
يفضل المسلم صنوه إلا بميزة يحرزها لنفسه بكده وجده ، ألا وهي التقوى ،
فمن لا تقوى له ، لم ينفعه أسلافه ولو كانوا تقاة الدنيا .
أيها
المسلمون : لقد كان كل شيء يهون على كفار قريش ، إلا تحطيم الفخر بالأنساب
، والاغترار بالآباء والأجداد ، وما كان يخفى عليهم ما في عقائدهم من سخف ،
ولم يخف عليهم أن ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم خير مما هم عليه
من عقيدة ، ولكنهم كانوا يدفعونها بكل ما يملكون من قوة .. لماذا ؟ وما هو
السبب ؟ لأن ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم فيه تحطيم لسيادتهم
وفوارقهم واعتزازهم بأنسابهم . فقد كانت جمهرة الحجيج تقف بعرفات وتفيض
منها ، أما قريش .. فكانت تقف بالمزدلفة ومنها تفيض ، فجاء محمد صلى الله
عليه وسلم وهو من أشراف قريش يقف بعرفات ، ويأمر الله قريشاً فيقول : ( ثم
أفيضوا من حيث أفاض الناس ) " سورة البقرة ، الآية : 199 " تحقيقاً
للمساواة بين المسلمين .
وكان
الرجل من أشراف قريش يأنف أن يزوج ابنته أو أخته من الرجل العربي من عامة
الناس ، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم – وهو من قريش – فزوج ابنة عمه زينب
بنت جحش من مولاه زيد وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يا بني
بياضة ، أنكحوا أبا هند ، وأنكحوا إليه ) " رواه أبو داود والحاكم بسند جيد
" وكان حجاماً رضي الله تعالى عنه .
وبهذا
كله .. يقف الإسلام فريداً بين جميع أنظمة الدنيا، التي عرفها البشر
قديماً وحديثاً . ويقف الإسلام . فريداً في مداراته لجميع أسباب النزاع
والخصومات في الأرض ، وإرخاصه لجميع القيم التي يتكالب عليها الناس ، ليرفع
لواء ضخماً واحداً ، يتسابق الجميع ليقفوا تحته ، ألا وهو لواء التقوى ؛
الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من أخطبوط العصبية للجنس ، والعصبية للأرض
والعصبية القبلية ، بل والعصبية ضد الرق ليقول صلى الله عليه وسلم ( من
قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه ، ومن أخصى عبده أخصيناه ) " رواه
أحمد والأربعة " وينقذ البشرية من عصبية الرجل ضد المرأة ، في الوقت الذي
كانت الجاهلية تئد فيه البنات ، فيقول الله عز وجل : ( وإذا الموءودة سئلت (
بأي ذنب قتلت )" سورة التكوير ، الآيتان : 8 ، 9 " ويقول ( للرجال نصيب
مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ) " سورة النساء ، الآية : 32 " قال
صلى الله عليه وسلم : ( ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية . تحت قدمي موضوع ) "
رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة وغيرهم . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد
لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، الداعي
إلى رضوانه ، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه .
أما بعد :
فيا
أيها المسلمون : إنه في الوقت الذي جاء الإسلام فيه محارباً للعصبية ،
ومبطلاً لها ، لم يترك باباً من أبوابها إلا أغلقه ، ولا نافذةً من نوافذها
إلا طمسها ، سوى عصبية واحدة ، ذات صفة محمودة ، وطبع مندوب ، ألا وهي
العصبية للدين والعقيدة الصحيحة ، فلا توالي إلا في الدين ، ولا تعادي إلا
فيه ، تحب من أحبه ولو كان أبعد بعيد ، وتبغض من أبغضه ولو كان أقرب قريب ،
لا تغضب إلا لله ولا تنتصر إلا لله ، لله وحده ، واعلموا أيها المسلمون ،
أن من لم يحمل شيئاً من ذلك ، فهو ممقوت عند الله ، منبوذ بين المسلمين
تنفر منه الطباع السليمة ، والقلوب المؤمنة ، لا يحلو له طعام ، ولا يهنأ
له شراب ، ولا يجد أثر السعادة ، ولا يذوق حلاوة الإيمان ، فهو نطيحة
متردية . نعوذ بالله من ذلك .
ثم
اعلموا أيها المسلمون أنكم وإن وفقتم لنزع العصبية الجاهلية من قلوبكم ،
وطهرتم منها مجتمعكم فلن تسلموا من عصبية كبرى خارجة عن إرادتكم ، وهي ليس
بأيديكم ، ولا يمكن لمسلم ولا مسلمة أن يعيش على هذه البسيطة ، إلا وينال
من بلائها ويذوق من مرارتها ، إنها عصبية الكفار لكفرهم ، تلكم العصبية
التي تغلي في نفوسهم ضد المسلمين ، والتي لم يسلم منها أحد حتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فهذه العصبية باقية إلى قيام الساعة ، لا تنطفئ نارها
، ولا ينام أربابها ، وربما تقنعوا بأقنعة كثيرة لتغطيتها ، إلا أنها لا
تخفى على ذي لب من المسلمين .
وهي
وإن علت تارةً ، وانخفضت أخرى ، إلا أنها في هذا العصر ، قد كشرت عن
أنيابها ، وشمرت عن سواعدها ، فلم تعد تلكم الأقنعة ، تجدي ، ولم يبق لذلك
التلون من سبيل ، إذا لم يبق إلا أن أعلنوها صريحةً واضحة ، وهذا الإعلان ،
وتلكم الصراحة لم تكن بخط اليد ، ولا بنطق اللسان فحسب ، بل بنطق الدماء ،
وبكاء الثكالى ، وأنين الأيتام إنه الدم المسلم المراق .
فا
تقوا الله أيها المسلمون ، وصلوا على من أمركم بالصلاة عليه فقال عز من
قائل عليم ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين أمنوا صلوا عليه
وسلموا تسليماً ) " سورة الأحزاب ، الآية : 56 " .
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين .
اللهم
فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين ، واقض الدين عن
المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين . برحمتك يا أرحم الراحمين .
ربنا آتتا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله اذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون